من وراء الكتف اليسري لأحد ضباط الجوازات في مطار هامبورج الدولي في شمال غربي ألمانيا، حدّقتْ صورة لوجه مألوف في عيني وأنا أقدم جواز سفري. كانت الصورة لرمزي بن الشيبة بعينيه هاتين الناعستين وشفتيه الممتلئتين، وكانت تتصدر، إلي جانب صورة أخري لسعيد بحاجي، ملصقاً عنوانه (مطلوب للعدالة). بينما أخذ يتصفح علي مهل جواز سفر بريطانياً به اسم عربي مسلم وتأشيرات دخول إلي أماكن (مشبوهة) كالعراق وباكستان وغيرهما، رفع الضابط وجهه فجأة وسأل بالإنجليزية: «هل لديك معلومات عنهما؟». «يمكنني أن أسألك الشيء نفسه!».
أجبتُ بابتسامة خفيفة متجنباً السؤال. لو أردتُ أن أكون صادقاً لكنت اضطررت إلي أن أعترف للضابط بأنني قبل أسبوع واحد فقط كنت قد قضيت ثماني وأربعين ساعة مع رمزي بن الشيبة في كراتشي أستمع منه إلي تفاصيل عملية الحادي عشر من سبتمبر التي أدار هو جانباً مهماً من مراحلها من هنا، من هذه المدينة. التقطتُ جواز سفري وألقيت بنفسي إلي شوارع هامبورج أراها لأول مرة بعيون منسق عملية (الثلاثاء المبارك).
قبل سبع سنوات من هذا اليوم - تحديداً في الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول ١٩٩٥ - كان يمني رث الهيئة يبلغ من العمر ٢٣ عاماً قد وصل علي ظهر باخرة إلي ميناء هامبورج وفي يده حقيبة ملابس واحدة صغيرة. بعد خمسة أيام من وصوله طلب من السلطات الألمانية حق اللجوء السياسي تحت اسم رمزي محمد عبد الله عمر، المولود في العاصمة السودانية، الخرطوم، عام ١٩٧٣ ولتعزيز طلبه، ادعي أنه اعتُقل وعُذّب لمدة أسبوعين بسبب اشتراكه في مظاهرات طلابية. لكنّ رمزي، في الحقيقة، كان قد ولد في العاصمة اليمنية، صنعاء، عام ١٩٧٢ لعائلة (ابن الشيبة) التي تمتد جذورها في منطقة حضرموت.
منذ وصوله عُرف رمزي بن الشيبة في مجتمع المسلمين في هامبورج باسم (عمر). حلت عليه هنا أول جمعة فتوجه للصلاة في مسجد الأتراك. بينما تجمع المصلون أمام المسجد عقب الصلاة، اقترب هو من رجل طيب المظهر، ذي لحية بيضاء مهيبة، في الخمسين من عمره. كان رمزي يريد أن يعرف الطريق إلي مسجد (المهاجرين). يتذكر صاحب اللحية البيضاء، محمد بلفاس، أن الشاب المستنير كان يبحث عمن وصفه بـ (وزير المهاجرين). «قلت له إنني لا أعرف أحداً بهذا اللقب في مجتمعنا، ولكنني وصفت له الطريق إلي المسجد علي أية حال». لكن أناساً أخذوا (عمر) من يديه قبيل نهاية اليوم وأشاروا إلي محمد بلفاس نفسه: «هذا هو وزير المهاجرين».
تظنه من اسمه مغربياً، لكنّ محمد بن ناصر بلفاس إندونيسي من أصل يمني. تضرب جذوره في حضرموت في جنوب شرقي اليمن حيث تضرب - بالصدفة - جذور بن لادن وابن الشيبة. وُلد في ساواهبيسار في جاكرتا في الحادي والعشرين من فبراير/شباط عام ١٩٤٦، وفي سن الثانية عشرة عاد إلي جذوره في حضرموت، ومنها إلي القاهرة. وفي عام ١٩٧٢ توجه إلي ألمانيا كي يكسب عيشه، ككثيرين مثله، دون تأشيرة عمل قانونية لمدة ثلاثة عشر عاماً فيما يعرف بـ (الاقتصاد الأسود).
وفي عام ١٩٨٥ قبضت السلطات الألمانية علي بلفاس وأودعته السجن تمهيداً لترحيله. ولكن، لحسن حظه، لم تعف عنه السلطات وحسب، بل أيضاً منحته حق الإقامة غير محدود الأجل، وفي عام ١٩٩١ حصل علي حق العمل بصورة قانونية. وقبيل انتهاء عام ٢٠٠٠ اكتمل الوضع القانوني لبلفاس بحصوله علي جواز سفر ألماني رقم ١٢٩٧١٣٣٥٣٠٣
لدي تلك النقطة من الزمن كان بلفاس قد اكتسب شهرة بين مجتمع المسلمين في هامبورج، فبدءاً من عام ١٩٧٩ اعتاد الرجل فتح بابه لما يصفه بـ (جلسات نقاش) للألمان الراغبين في اعتناق الإسلام وزوجات المسلمين الألمانيات وهؤلاء المهتمين بالتعرف علي دين الإسلام وثقافته. وعبر تلك الجلسات تحول مئات من الألمان إلي الدين الحنيف.
«كثير من الإخوة الذين يعيشون هنا للعمل أو الدراسة يأتون إلي شقتي، عرباً وإندونيسيين وألماناً وأتراكاً. أحياناً يأتي معهم أصدقاء يشاركوننا شرب الشاي والنقاش في أمور الحياة والإسلام والاهتمامات المشتركة»، يؤكد محمد بن بلفاس وهو يتخذ موقعه المعتاد في حجرة الاستقبال، «إنني معروف هنا، وهم يأتون من كل مكان ثم يعودون أدراجهم من حيث أتوا. بعضهم يعود مرة أخري وبعضهم لا يعود».
لم يكن من المفاجئ إذاً أن ينجذب رمزي سريعاً نحو بلفاس، فعندما أخبره (عمر) بأنه في انتظار نظر السلطات الألمانية في أمر طلبه حق اللجوء السياسي، فتح بلفاس أبواب شقته المستأجرة في شارع زيمرشتراسا كي يقيم معه لعدة شهور إلي حين البت في طلبه.
منذ حصوله علي جواز السفر حتي كتابة هذه السطور، يعمل بلفاس مع مصلحة البريد الألمانية Deutsche Post Service. ولأن نوبات عمله في معظم الوقت ليلية فإنه، علي حد قوله، لم يكن ليعلم ما كان يفعله رمزي أثناء الليل عندما يكون هو في العمل ولا أثناء النهار عندما يكون نائماً بعد العمل. «عندما يحل المساء كان رمزي يعود إلي الشقة فيما كنت أستعد أنا للخروج إلي العمل، وإن كنت أعتقد أنه في تلك الفترة كان يبحث عن مكان للدراسة».
في صنعاء، يؤكد أحمد بن الشيبة، شقيق رمزي، أن أخاه توجه إلي ألمانيا لغرض دراسة العلوم السياسية والاقتصادية. كان رمزي لا يزال في السادسة عشرة من عمره عندما مات والده في حضرموت عام ١٩٨٨ كان ترتيبه الرابع بين ستة أشقاء وكان، كما يؤكد أحمد، أقربهم جميعاً إلي والدته. «كان دائماً يساعدها في تربيته». وقبيل سفره إلي ألمانيا كان يعمل في مصرف تجاري خاص ويدرس اللغة الإنجليزية في الوقت نفسه. «كان إنساناً سهلاً بسيطاً يحبه أفراد العائلة جميعاً والأقارب والجيران. كان حريصاً علي صلة الرحم ومودة الأصدقاء. كان مهذباً واجتماعياً، وكانت أحب الهوايات إلي قلبه القراءة وكرة القدم». كانت هذه أيضاً ذاكرة بلفاس عن رمزي. «في منتهي الأدب، في منتهي الطيبة، في عينيه بريق وفي قلبه خشية لله وفي عقله إلمام بشؤون الدين، لكنه أيضاً كان خجولاً لا يتفاعل كثيراً أثناء جلسات النقاش».
أثناء إقامته مع بلفاس في زيمرشتراسا، أتيح لرمزي أن يتعرف علي إندونيسي آخر كان هو أيضاً يقيم في الشقة نفسها. كان هذا هو أنغوس بوديمان الذي اعتقلته السلطات الأمريكية بعد عشرة أيام علي أحداث الحادي عشر من سبتمبر لاشتباهها في تآمره مع رمزي بن الشيبة. يعترف بلفاس بأن بوديمان كان من أصدقائه المقربين: «تعود صداقتنا إلي فترة طويلة من الزمن، لكنه لم يكن من النوع الإرهابي. لم يكن كذلك علي الإطلاق».
بعد انتهاء دراسته في هامبورج، توجه بوديمان إلي الولايات المتحدة حيث أقام مع أحد أقربائه في ميريلاند. وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام ٢٠٠٠ وجه دعوة لصديقه بلفاس للحاق به في جولة سياحية. يقول بلفاس إن تلك «كانت فكرة عظيمة، وبناء علي دعوته سافرت إلي الولايات المتحدة لمدة ثلاثة أسابيع حيث قمت بزيارة ميريلاند وفرجينيا وواشنطن». ثم يبتسم الرجل مستطرداً: «لحسن الحظ لم تتح لي فرصة زيارة نيويورك، الحمد لله، فلو كنت فعلت لصارت الاتهامات ضدي بكل تأكيد أسوأ».
أثناء زيارته القصيرة إلي الولايات المتحدة حاول بلفاس استخراج رخصة قيادة محلية، لكنّ طلبه المكتوب احتوي علي كذبة واحدة علي الأقل. «لقد استخرجت رخصة قيادة أمريكية علي سبيل التذكار بأنني يوماً ما زرت أمريكا. عرضت أمامهم رخصة القيادة الألمانية ودفعت ١٢ دولاراً، فأين الكذب إذاً؟» ثم يطرق بلفاس قليلاً قبل أن يستطرد: «صحيح أن العنوان الذي كتبته في الطلب كان عنوان أنغوس القديم في فرجينيا، ولكن عدا ذلك لم يكن هناك أي كذب».
لكنّ حظ بلفاس، علي هذه الخلفية الجدلية، أفلت مرةً أخري من بين أصابعه عندما اعتقلته السلطات الألمانية. هذه المرة كان الأمر جد خطيراً. ففي الثانية والنصف بعد ظهر الخميس الثالث عشر من سبتمبر/أيلول عام ٢٠٠١، بعد يومين علي الهجوم علي واشنطن ونيويورك، اقتحمت شقته مجموعة من رجال مكتب التحقيقات الألماني Bundeskriminalamt.
«كان هناك كثيرون منهم. كثيرون جداً إلي حد أنهم أغلقوا الشارع الرئيسي»، يتذكر بلفاس ساخراً، «لم يكن لديهم إذن بالتفتيش، ورغم هذا بقوا داخل الشقة من الثانية والنصف ظهراً حتي الثانية والنصف من صباح اليوم التالي».
في تلك الأثناء كان يزوره بعض الأصدقاء، وكانوا جميعاً يتحدثون عن الأحداث (العجيبة) التي وقعت قبل يومين. وضع رجال الأمن الأغلال في أيديهم جميعاً مقيدين أذرعهم وراء ظهورهم وأغلقوا وراءهم باب الحمام فيما قلبوا الشقة علي أعقابها. «من يدري عم كانوا يبحثون؟! صادروا أشياء كثيرة من ممتلكاتي: أشرطة صوتية، وأشرطة فيديو، وجاكت، وبنطلونات، وحزام، وكتب، وجواز السفر، وأشياء أخري، إضافة إلي اسطوانة مدمجة لأنغوس بوديمان».
بعد التحفظ عليه لثلاثة أيام في مركز للشرطة في هامبورج، بدأ التحقيق مع بلفاس بشأن صلته المزعومة بالهجوم علي واشنطن ونيويورك. «عرضوا علي صوراً لعدد من الإرهابيين المشتبه في ضلوعهم في الهجوم علي مركز التجارة العالمي». تعرّف بلفاس علي صور محمد عطا وسعيد بحاجي ورمزي بن الشيبة. فقط بعد وقوع الفأس في الرأس، بدأت السلطات الألمانية تتكشف تدريجياً أهمية هامبورج في سنوات التخطيط لأعنف هجوم إرهابي عرفه التاريخ حتي اليوم، لكنّ ذلك كله كان لا يزال طي المستقبل.
١ - مقابلة خاصة مع محمد بلفاس، هامبورج، يونيو ٢٠٠٢.
٢ - مجلة (المجلة)، العدد ١١٧٣، ١٠ أغسطس ٢٠٠٢، ص ١٢.