بعد وصوله إلي هامبورج بنحو أربعة أشهر، علم من كان له بعد قليل أن يكون منسق عملية ١١ سبتمبر، رمزي بن الشيبة، في السابع عشر من يناير/كانون الثاني ١٩٩٦ أن السلطات الألمانية رفضت طلبه للجوء السياسي. مدركاً أن الخطوة التالية هي ترحيله، أقام عمر، وهذا هو الاسم الذي عُرف به في ألمانيا - دعوي قضائية تطعن في القرار. في انتظار القرار النهائي قام الألمان بتسكينه في كومرفلد Kummerfeld مع طلاب اللجوء السياسي، مع إعطائه الحق في الحصول علي منحة شهرية من الضمان الاجتماعي، إذ إنه لا يحق له العمل.
لكن عمر، الذي بقي علي لائحة الضمان الاجتماعي لمدة عامين كاملين، لم يتقدم مرةً واحدة للحصول علي منحته الشهرية.. لا يعرف الكثير عما فعل عمر بقية عام ١٩٩٦ سوي أنه شوهد يتردد بصورة شبه منتظمة علي المساجد وأنه كان يحاول أن يتعلم اللغة الألمانية.
استطاع رغم ذلك أن يكسب قليلاً من الماركات الألمانية من شركات مختلفة كانت تبحث عن عمالة رخيصة. كانت إحداها في إليرهوب (Ellerhoop) شمال غربي هامبورج حيث عمل رمزي في موقع للبناء في بداية عام ١٩٩٧ في مقابل ١٢ ماركاً ألمانياً في الساعة. لكنه كان بطيئاً ونحيل الجسد، يقول مديرها فولكر أوفين، ولم يكن قادراً علي حمل أحجار التبليط، فقمت بطرده بعد عشرة أيام.
وفقاً لبلفاس، انتقل رمزي بعد ذلك إلي الجانب الشرقي من ألمانيا. في سياق البحث عن الأدلة، وقع المحققون الألمان علي مجموعة من الملابسات الغامضة في سيرة عمر في ألمانيا، إذ تحتفظ السجلات الرسمية بعناوين كثيرة لرجل استخدم خمسة أسماء مختلفة. يقول أحد الذين قاموا بتسجيل اسم رمزي في هامبورج، وهو جزائري، إنه لم يعرف عنه إلا أقل القليل. ورغم ذلك فتح له باب منزله كي يسكن معه. ««لقد قابلته في مقهي، وقمت بتسجيل اسمه معي لأنه كان لطيفاً وعربياً».
ليس واضحاً ما إذا كان الرجل الذي قُدّر له لاحقاً أن يكون منسق هجمات الحادي عشر من سبتمبر عضواً فاعلاً في تنظيم القاعدة قبل قدومه إلي ألمانيا. غير أن تواريخ بعينها، وأماكن بعينها، وأسماءً بعينها، ومصادفاتٍ بعينها، تفسح المجال واسعاً لأسئلة مشوقة. فقبل وصول رمزي بأشهر قليلة إلي هامبورج، توجه محمد عطا الذي كان يدرس هناك للسنوات الثلاث السابقة تحت اسم محمد الأمير إلي مكة لأداء فريضة الحج، وهو أمر غير شائع بين المصريين من الشبان غير المتزوجين الذي لا يزالون في العشرينات من عمرهم. وبعد وصول رمزي بأشهر قليلة إلي هامبورج، التحق المغربي/الألماني، سعيد بحاجي، وهو الآن علي قائمة المطلوبين ألمانياً وأمريكياً وإسبانياً بالجامعة الفنية في ضاحية هاربورج في هامبورج Technische Universitat Hamburg-
Harburg (TUHH) ، وهي الجامعة نفسها التي
كان يدرس بها محمد الأمير (عطا).
أضف إلي ذلك شهرين كي يصل إلي ألمانيا اللبناني زياد الجراح في الثالث من أبريل/نيسان ١٩٩٦ ثم أضف إليه ثمانية أيام كي يقوم عطا وهو بعد في السابعة والعشرين من عمره بتوقيع وصية الموت في أحد مساجد المتشددين في هامبورج. ثم أضف سبعة عشر يوماً آخر كي يصل الإماراتي، مروان الشحي، إلي ألمانيا. لقد كانت هذه خلية في أولي مراحل التكون انتشر أعضاؤها في أماكن مختلفة من ألمانيا، وشيئاً فشيئاً بدت هامبورج وكأنها مغناطيس يجتذبهم بفعل فاعل واحداً بعد الآخر إلي أن حان الوقت، بعد اثنين وثلاثين شهراً، كي يسكن معظم أعضائها معاً في شقة واحدة تحتل الطابق الأول في المبني رقم ٥٤ في شارع ماريانيشتراسا Marien
strasse. ومنذ اليوم الأول كان
من الواضح أن المصري، محمد عطا، محور الخلية.
في اليوم الأول من أغسطس/آب من عام ١٩٦٨ كان محمد محمد الأمير عوض السيد عطا قد ولد في مدينة كفر الشيخ في دلتا مصر، ومنها انتقل صغيراً مع والديه وشقيقتيه إلي قلب القاهرة وبعدها بسنوات إلي حي العمرانية الواقع علي بعد دقائق من أهرامات الجيزة. نشأ علي يدي والده، المحامي المفوّه المتطلع إلي الطبقة الوسطي، نشأة مصرية كلاسيكية. سيسمح للولد النحيل أن يلعب مع أترابه في شوارع الضاحية الشعبية المكتظة بالسكان، لكنه أيضاً سيحافظ علي الصلاة في المسجد، وسيبرز نجمه في مدرسته.
رحم الله الملك فيصل بن سعود (العاهل السعودي في الستينيات وأوائل السبعينات) الذي أوقف عام ١٩٧٣ هنري كيسنجر (وزير الخارجية الأمريكي في أوائل السبعينيات) عند حده، يقول محمد عطا الكبير متحمساً، عندما أراد كيسنجر أن يلوي ذراعه بزعم أن هناك أصواتاً في أمريكا تطالب باحتلال منابع البترول بالقوة قال له: افعلوا ما شئتم، لن يضيرنا أن نعود إلي أكل التمر وشرب اللبن.
انتقلت أعوام طويلة مختلطة بالأمل والإحباط من أب مفوّه إلي ابن مطيع. كان الولد في الخامسة عندما قادت بلاده العرب إلي استعادة جانب من كرامتهم في حرب أكتوبر/تشرين ١٩٧٣، وكان في التاسعة عندما طار الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، «في خزي وعار» لإلقاء كلمة أمام الكنيست الإسرائيلي، وكان في الثالثة عشرة عندما أردت منظمة الجهاد الإسلامي الرئيس المصري «الخائن» قتيلاً أثناء استعراض عسكري.
بعيداً عن مشكلات البيت والمجتمع، وجد الولد الصغير نفسه حقاً بين أسوار المدرسة وصفحات الكتب. في سن الثامنة عشرة أتاح له تفوقه الكبير في الثانوية العامة أن يلتحق بأي كلية في أي جامعة يختارها. في النهاية وقع الاختيار علي دراسة الهندسة المعمارية. في أكتوبر/تشرين الأول عام ١٩٨٦ التحق محمد عطا بكلية الهندسة في جامعة القاهرة، الجامعة نفسها التي كنت أنا قد تخرجت منها قبل ذلك بأسابيع قليلة كي أُُعين بها معيداً في قسم الإذاعة والتليفزيون في كلية الإعلام.
يبين في صور الجامعة طالب سعيد في قسم الهندسة المعمارية، يتذكر أساتذته وزملاؤه محمداً ذكياً متفانياً مهذباً خفيف الظل، كان في الوقت نفسه قصيراً نحيلاً خفيف الوزن ذا ملامح صبيانية إلي حد أنه كان يجد صعوبة كل صباح في إقناع حراس الجامعة بالسماح له بالدخول حتي بعد إشهاره البطاقة الجامعية.
أثناء دراسته في الجامعة المصرية المرموقة، انخرط عطا في دورات دراسية مكثفة لإتقان اللغة الإنجليزية في الجامعة الأمريكية في القاهرة، وأنهاها بتفوق. في الفترة نفسها كنت أنا نفسي قد انتقلت إلي الجامعة الأمريكية لإعداد رسالة الماجستير. ولأنه الابن الوحيد لوالديه أعفاه القانون المصري من الخدمة العسكرية، التي كان يمكن أن تمتد ثلاث سنوات، لدي تخرجه في الجامعة عام ١٩٩٠ بدلاً من ذلك، ألقي المهندس المعماري الغض نفسه في سوق للعمالة كانت تكتسب كل يوم معايير غريبة بحثاً عن وظيفة، وفي الوقت نفسه بدأ دراسة اللغة الألمانية في معهد غوته في القاهرة.
في عيون شاب مثله متدين وطني مستقيم مرهف الحس، لم يكن الواقع المصري ولا العربي ليبعث علي كثير من التفاؤل. كان العراق قد غزا الكويت، وكان الأمريكيون قد استلموا العراق، وكان الفلسطينيون قد اعترفوا بإسرائيل، وكانت أعباء المعيشة في مصر تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم، فكان هو أن قرر الرحيل.
تحت اسم محمد الأمير وضع محمد عطا قدميه لأول مرة علي أرض هامبورج في الرابع والعشرين من يوليو/تموز عام ١٩٩٢ أوصله حظه إليها ضمن برنامج للتبادل الثقافي بين مصر وألمانيا أتاح له أن يقيم أول ما وصل مع أسرة ألمانية. ورغم أن تأشيرة الزيارة لم تكن لتسمح له بكثير من الأحلام، اغتنم الأمير فرصة وجوده هناك للبحث عن أماكن للدراسات العليا في الهندسة المعمارية.
رفض معهد Fachhochschule في هامبورج طلبه، فطعن في الرفض. بينما كان يبحث في أماكن أخري أعيد النظر في طلبه وتم قبوله، لكن ذلك حدث فقط بعد أن وجد مكاناً لدراسة التخطيط العمراني في الجامعة الفنية في هاربورج، إحدي ضواحي هامبورج الخضراء الهادئة.
كان اليوم الثالث والعشرون من نوفمبر/تشرين الثاني من عام ١٩٩٢ يوماً ذا مغزي في حياة محمد عطا، وفي مماته. صباحه توجه الشاب المصري الهادئ كي يتخذ مقعده داخل الجامعة وهو يعلم أن من حقه الآن أن يعيش قانونياً في ألمانيا وأن في استطاعته الآن أن يحلم بمستقبل أقل إحباطاً. من اليوم الأول ترك انطباعاً رائعاً لدي أستاذه، ديتمار ماخوله. كان انطباعي الأول عنه أنه شاب ذكي، متحفظ إلي حد ما، له عينان تشعان شغفاً واهتماماً. كان مهتماً باستطلاع كل ما يمكن الاستفادة منه. أما ما لم يكن عادياً فهو تدينه الشديد. كان يصلي بجدية، وكانت الصلاة بالنسبة له أسلوب حياة. لم تكن لدي مشكلة مع هذا الأمر، فأنا مطلع علي الإسلام وعلي العالم العربي، ولكنّ الطلاب كانوا يستغربونه.
لم يكن الطلاب وحدهم، إذ إن الأسرة الألمانية التي كانت تستضيفه في منزلها لم تستطع، عندما حل رمضان بعد ذلك بثمانية أشهر، فهم تصرفات الشاب المسلم المتدين. كانوا يشعرون بـ إهانة ثقافية كلما أزاح محمد عينيه عن شاشة التليفزيون عند ظهور فتاة شبه عارية، وكانوا يشعرون بإزعاج كلما استيقظ قبيل الفجر لإعداد وجبة السحور. في النهاية لا هم استراحوا ولا هو استراح، فاضطر إلي جمع أغراضه والبحث عن مسكن آخر. كان كأن قدراً يدحرجه في اتجاه بعينه.