ألقي محمد عطا - الذي كان قد اضطر إلي ترك منزل الأسرة الألمانية التي كانت تستضيفه - بأغراضه في غرفة رخيصة الإيجار في منزل للطلابAm Centrumshaus ، وألقي بروحه إلي مساجد الله الكثيرة في هامبورج.
كان شاب مصري آخر اسمه نادر العبد، وهو يملك شركة صغيرة لمقاولات البناء، يصلي ذات يوم في مسجد المهاجرين قرب محطة القطار عندما اقترب منه صديقه الفلسطيني، محمد علي، هامساً: ثمة شاب مصري ممتاز أود أن أعرّفك عليه. انتظرا حتي انتهي عطا من صلاته فانتحيا به في زاوية من المسجد الصغير المستطيل. كان هناك ارتياح فوري بين الشابين المصريين.
يقول نادر، الذي حذف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي اسمه عام ٢٠٠٢ من قائمة الخاضعين للمراقبة: في ذلك الوقت كنت قد تزوجت حديثاً بفتاة ألمانية كانت تسألني دوماً عن الإسلام. ولأنني لم أكن ضليعاً في أمور الفقه كنت في حاجة إلي مساعدة.
ولأن انطباعه عن محمد الأمير أنه طيب مهذب ذكي عارف بأمور الدين، زاره في اليوم التالي في مسكن الطلاب وشرح له الأمر. «كان في غاية الترحيب، وفي غاية الإقدام. لم يتردد في قبول دعوتي لزيارتنا في المنزل بعد يومين».
بحجابها الأبيض المحترم وفستانها الطويل المهذب ووجهها الملائكي المستريح استقبلت صفية العبد ضيفها الخجول المتواضع. كأنها في صورتها هذه تشبه مريم العذراء جلست إلي جوار زوجها أمام رجل لا تزال حتي اليوم تحمل له كل مودة وتقدير. «كان في منتهي الأدب.
أجاب عن أسئلتي ما وسعته المعرفة بصورة محايدة. لم يكن لدي إحساس بأنه يريد إقناعي (باعتناق الإسلام)، وإنما أخبرني فقط من علمه، واستمعت إليه وناقشته وحاولت أن أفهم». استراحت صفية للشاب المهذب، ففتحت له قلبها.
«حكيت له عن بعض الكوابيس التي كانت تنتابني أثناء الليل، وسألته إن كان يعتقد أن لها علاقة باهتمامي بالإسلام. قال لي، إن تلك الكوابيس من عمل الشيطان، ونصحني قبل أن أخلد للنوم بأن أردد في نفسي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم».
بعدها بأيام قليلة، شرح الله قلب صفية للإسلام فاعتنقته عن اقتناع، وصارت تتردد بانتظام مع زوجها المصري علي جلسات النقاش في منزل محمد بلفاس، حيث كان عطا هو أيضاً أحد المشاركين. هناك تعرّف الوجه الجديد، محمد الأمير، علي كثير من العرب والمسلمين وغيرهم. يقول بلفاس إنه «كان مهذباً، ومحترماً، وهادئاً. لا يتدخل في شؤون الآخرين، ولا يتحدث إلا إذا دُعي إلي الحديث، غير أنه لم يكن يستريح للاختلاط بين الرجال والنساء».
مصري آخر اسمه أيمن نجم، وهو أيضاً متزوج بألمانية اعتنقت الإسلام، ينظر إلي زوجته مبتسماً وهو يتذكر محمداً ضحوكاً. «اعتدنا أن يداعب أحدنا الآخر باستخدام دعابات شهيرة من المسرحيات الكوميدية المصرية.
كنت أعلم أنه كان يحلم بالاستقرار في مصر والزواج بفتاة مسلمة طيبة. عرض عليه بعض أصدقائنا الأتراك أن يتزوج إحدي فتياتهم، لكنه كان يريد أن ينهي دراساته ويعود إلي بلده مصر».
يتذكر الألماني، مارتن إي، أحد زملائه في الدراسة، أن محمد الأمير «كان قصيراً، خفيف الوزن، ذا شعر أسود قصير ومظهر هادئ حازم كلاسيكي بملامح إغريقية. كان معتاداً علي ارتداء بنطال صوفي ناعم وكنزة صوفية. كان متحفظاً كتوماً بشكل أشعرني أن أحداً لم يكن ليقترب من حياته الشخصية، وكان سلوكه تجاه الفتيات فظاً. لم يكن يشعر بارتياح لوجودهن، وإذا اضطر للوجود بينهن لم يكن ليصافح أيهن، وإنما كان ينظر بعيداً».
رغم أنه لم يكن مضطراً لدفع الرسوم الدراسية، كان علي عطا أن يوفر بعض المال لتغطية نفقات التأمين الاجتماعي والمواصلات والمأكل والمشرب. في الأول من ديسمبر/كانون الأول ١٩٩٢ التحق بشركة صغيرة للتصميم العمراني اسمها بلانكونتور Plankontor.
كان يعمل فقط لمدة ١٩ ساعة كل أسبوع في مقابل ١٧٠٠ مارك ألماني في الشهر. طوال السنوات الخمس التي قضاها في عمله هذا حظي باحترام رئيسه وزملائه واستحق ثقتهم. كانت لديه نسخة من مفاتيح الشركة، وكان، إلي جانب عمله الفني، مسؤولاً أيضاً عن الرد علي المكالمات الهاتفية.
يتذكر زملاؤه في العمل محمداً طيباً ودوداً، عندما كانت تصيبهم آلام في الظهر أو أمراض أخري متعلقة بالعمل. كان دائماً ينصحهم بتناول الأعشاب وممارسة العلاج الطبيعي الروحي.
في الوقت نفسه استمر عطا في التفوق في دراسته وسلوكه في الجامعة، فاكتسب ثقة أساتذته إلي حد أن البروفيسور ديتمار ماخوله كان يرشحه للحديث في الندوات المتخصصة أثناء انشغاله.
في إحدي هذه الندوات عن التخطيط والبناء في الدول النامية تحدث عطا ببلاغة وحماس عن ضرورة الحفاظ علي الهوية المعمارية الإسلامية.
لم يدع مجالاً للشك في أنه يحتقر الاتجاه إلي أمركة ثقافة مصر وتراثها داعياً إلي وضع حد للأبنية المرتفعة لصالح الأبنية التقليدية، التي تأخذ المعطيات المحلية في الاعتبار.
كان أستاذاً في التفاصيل. حقاً، حقاً. كان أستاذاً في التفاصيل يريد لكل ما يفعله أن يكون مكتملاً من جميع جوانبه، يقول أستاذه الألماني، ديتمار ماخوله: كان يجلس هناك مستمعاً في هدوء، مراقباً لكل التفاصيل، كأنه ليس حاضراً، ثم فجأةً يأتي بسؤال أو ملاحظة في غاية الذكاء والحدة. لقد كان إنساناً من نوع خاص غير عادي.
في عام ١٩٩٤، قدم محمد الأمير طلباً للحصول علي منحة دراسية من جمعية كارل ديوسبيرج Carl Duisberg لسياسات المساعدات التنموية. جاء في طلبه:
لقد وُلدت ونشأت أنا نفسي في دولة نامية، فرأيت جوانب متعددة من المشاكل أثناء دراستي في حقل المعمار والتخطيط العمراني درست بعناية الأوجه المتعددة لتخطيط السياسات التنموية.
إنني أنتمي إلي ما يسمي الجيل الجديد الذي يتناول مسألة التنمية بعين ناقدة وإن كان يملؤها الأمل. ورغم أننا لا نعلم علي وجه الدقة كيف يتحقق ذلك، فإننا نحاول أن نفعل شيئاً لبلدنا. ولأنني الآن في ألمانيا، فإنني أحاول واعياً أو غير واع أن أكتشف كيف ينظر إلينا ما يسمي العالم الجديد وكيف يحدد علاقته بـ عالمنا الثالث.
في وقت لاحق من ذلك العام، سافر عطا في رحلة دراسية إلي اسطنبول في تركيا، ومنها إلي حلب في سوريا حيث درس علي أرض الواقع منطقة خارج باب النصر، أحد الأحياء الأثرية في المدينة. شكلت هذه الدراسة الميدانية أساس أطروحته للماجستير، التي لأسباب ستتضح لاحقاً استغرق استكمالها أكثر من خمس سنوات.
غير أن اللافت للنظر، من بين أمور عدة، هو لماذا يختار مصري معتز بمصريته كمحمد عطا بلداً آخر غير الذي ولد فيه لدراسة حالة أحد الأحياء الأثرية التي كان يمكن ببساطة أن يجد مئات من أمثالها في بلده؟ أحد الأسباب ربما يعود إلي تأثير أستاذه الألماني الذي كان قد شارك هو نفسه في بعض أعمال التنقيب في مواقع أثرية مختلفة في سوريا.
لكنّ سبباً آخر، خاصةً في حالة هذا المصري الوطني، ربما يعود إلي مصريته نفسها؛ إذ إن التاريخ أثبت دائماً عبر مراحله المختلفة أن سوريا أعز حليف لمصر. كلما اتحدتا شكلتا معاً جبهة منيعة. هي حقيقة أدركها القائد العظيم، صلاح الدين الأيوبي، فقام بتوحيد القطرين كي يطرد الصليبيين من الأراضي المقدسة بعد أن عاثوا فيها مئات السنين.
وهي حقيقة تدركها اليوم إسرائيل وتستغل موقعها ومعطيات الواقع الجديد، للتأكد من بقاء الجبهتين منفصلتين. غير أن مرور نحو نصف قرن علي فشل أحدث محاولات الوحدة التي بدأها عام ١٩٥٨ الزعيم العربي الراحل، جمال عبد الناصر، لم يؤثر في مشاعر الأخوة، وفي الأمل في أنها ستعود يوماً ما.
بينما كان منشغلاً بعبق التاريخ في أزقة خارج باب النصر، كان للشاب الجاد المتدين أن يقع في غرام مهندسة معمارية فلسطينية تعيش في سوريا. حاول أن يقنعها بأن تغير قليلاً من مظهرها وملبسها وأسلوبها في الحياة. خرجا معاً، فقط بقدر ما سمحت لها تقاليدها وبقدر ما سمح له تدينه، لكنه في النهاية رفضها، لأنها لم تكن لتضع علي رأسها حجاباً، أو تتصرف بصورة أكثر محافظة.
غادر عطا حلب بمادة بحثية هائلة وبقلب كسير. كان لأي شاب مصري عادي في السابعة والعشرين يدرس مثله في ألمانيا أن يجد عزاءً في حقيقة أن المستقبل لا يزال أمامه فاتحاً ذراعيه للآمال والأحلام. يبدو، من تتابع الأحداث، أن عطا لم يكن من هذا النوع.
الزواج بالنسبة للمسلم نصف الدين. ينصح الرسول، صلي الله عليه وسلم، بأن «من استطاع منكم الباءة فليتزوج». ورغم أن حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً أحد أركان الإسلام الخمسة، فإن علي المسلم أن يفكر أولاً في الزواج قبل أن يقوم بالرحلة المقدسة.
عندما عاد إلي هامبورج، قرر عطا ألا يأخذ بالنصيحة، فبعد أشهر قليلة ذلك العام، ١٩٩٥، كان في مكة والمدينة. هل، في غضون ذلك، اقترب منه لأول مرة أحد ما من داخل تنظيم القاعدة كما نعلمه الآن؟ لا يستطيع أحد أن يجزم. غير أنه، من ذلك التاريخ فصاعداً، انطلق سيل من المصادفات.