وانا هديتى ......
ـ 1 ـ النية
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلىالله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:
” إنّ اللّه كَتَب الحَسَنات والسيئات ثُمّ بيَّن ذلك فَمَن هَمّ بِحَسَنَة فَلَم يَعمَلها كَتَبَها اللّه تَبارَكَ وَتَعالى عندَهُ حَسَنَة كاملة ، وإن هَمّ بها فَعَملها كَتبها اللّه عشر حَسَنات إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هَمّ بِسيئة فَلَم يَعملها كتَبَها اللّه تَعالى عنده حَسَنَة كاملة ، وإن هَمّ بها فَعَمِلَها كَتَبَها اللّه سيئَة واحِدة ”
متفق عليه (1) ـ
يبدأ الكثير من كتب الحديث بالحديث المشهور الذي قال عنه بعض أئمة الحديث أنه وصل حد التواتر المعنوي(2) ” إنّما ألأعمال بالنيات وإنّما لكُل إمرئ ما نوى ، فَمَن كانت هِجرَتُهُ إلى اللّه ورسولِه فهِجرتُه إلى اللّه ورسوله ، ومَن كانت هجرتُه لدُنيا يُصيبُها أو إمرأة ينكِحُها فهجرته إلى ما هاجر إليه ” (3).ـ
فالنية أساس العمل ، تقترن النية الصالحة بالعمل القليل فترفعه ليكون من أقرب القربات ، أما النية السيئة فإذا اقترنت بالعمل الصالح الكثير فإنها تحيله إلى هباء منثور. قال تعالى: ” وَقَدِمنا إلى ما عَملوا من عَمَل فَجَعلناهُ هباء منثورا ” [4). ـ
أنظر إلى كرم الله تعالى: ينوي المرء فعل حسنة ثم لا يفعلها فيكتبها الله له حسنة ، فإذا فعلها تضاعفت عشرا أو مائة أو سبعمائة أو أكثر من ذلك إلى ما شاء الله بحسب نيته وإخلاصه.وإن نوى فعل سيئة ثم فعلها ، كتبت له سيئة واحدة لاغير. أما إذا لم يفعلها فإن الله يكتبها له حسنة . ولا تعجب من ذلك فإن ترك السيئة هو حسنة بذاته.
هذا الحديث يذكر المؤمن بأن ينوي فعل الخير في كل لحظة يستطيع ذلك ، فإن إستطاع تنفيذ فعل الخير فبها ونعمت ، وإن لم يستطع فإن الله يجازيه على حسن نيته. وهكذا فإن نية المؤمن خير من عمله لأن ما ينويه من خير أكثر مما يستطيع عمله في وقته المحدود وماله المحدود وقابلياته المحدودة . ولذلك على المرء أن يراقب نيته كما يراقب عمله فإذا ما وجد في نيته قصدا لغير الله وجب عليه تصحيح نيته في ذلك.
وقد يعجب بعض الناس من بركة عمل صالح لفرد ما حيث تتضاعف الفائدة منه وبذلك ينال صاحبه أجرا عظيما ، بينما لايحصل آخر عمل عملا مشابها على مثل تلك النتيجة ، وما ذلك في أغلب الأحيان إلا بتأثير النية الحسنة ، فأول خطوات الإستقامة تصحيح النية لكي تكون خالصة لله تعالى.
والنية الحسنة لا تحيل المعصية خيرا . قيل كان رجل يسرق كل يوم درهما فيشتري به خبزا فيدفعه إلى فقير. فلما إكتشف أمره قال إنه يسرق فيكسب سيئة واحدة فيتصدق فيكسب عشر حسنات ، تمحو إحداهن السيئة فيبقى له تسعا . فهذا الجاهل قد إكتسب سيئة ولم تكتب له أية حسنة ، لأن الصدقة من الحرام غير مقبولة والنية الحسنة هنا لا تجدي نفعا . لكن النية الحسنة في الأمر المباح تحيله عبادة . فالترويح عن النفس بغير نية إذا لم يكن فيه معصية لا إثم ولا ثواب فيه. أما إذا كانت النية في الترويح عن النفس الإستعداد لطاعة الله ، فعند ذلك يصبح الترويح عن النفس عبادة . قال أبو الدرداء إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فيكون ذلك عونا لي على الحق. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: روِّحوا القلوب فإنها إذا كرِهَت عَمِيَت . وفي رواية إذا كلّت عميت أو تعبت.
ـ 2 ـ الإخلاص
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلىالله عليه وسلم:
” قالَ اللّهُ تَباركَ وتَعالى أنا أغنى الشُرَكاءِ عَن الشِرك . مَن عَمِلَ عَمَلا أشركَ فيهِ معي غيري تركتُهُ وشِركَهُ ”
( رواه مسلم )
الإخلاص شرط في قبول الله تعالى للعمل الصالح ، قال الله تعالى: ” وَما أُمِروا إلاّ ليَعبُدوا اللّه مُخلِصين له الدينَ ” (5)ـ ، وقال: ” ألا للّه الدين الخالِص ” (6) ، قال الفضيل بن عياض(7): ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما . وهكذا فإن تمام اليقين بشهادة أن لا إلَه إلاّ الله أن لا ينوي حينما يفعل إحسانا الاّ أن ذلك لله وحده ، ولا يترك فعلا إلا لله ، ولا يتأثر بفعل ما سواء حضر الناس أم غابوا . فإنه ليس لله حاجة بعبادة أحد له ، وهو أغنى الشركاء عن الشرك ، فإذا أشرك العبد في أمر ما بحيث قصد أن يكون لله وللناس فإن الله غير محتاج لذلك العمل . وعلى المسلم أن يراقب نيته وقصده في كل عمل فما كان فيه شركا مع الله تعالى فعليه أن يصحح نيته فيه لكي تكون خالصة لله. كما عليه أن يجتنب الشرك في القول ، كقول أحدهم: هذا لله ولك ، أو قوله إذا أراد الله وأردت ، والحلف برأس المخاطب ، كما عليه أن يجتنب الشرك في الفعل كالذبح تحت أقدام البشر ، أو الركوع أمامهم ، أو الغلو في مدحهم بما يوهم رفعهم فوق مستوى البشر.
وعلى المؤمن أن يكون له ، ولو جزءا من عمله خالصا من أي رياء أو منّ على أحد ، من أعمال السر بحيث لا يعلم به أحد إلاّ الله كصدقة السر أو صلاة التهجد منفردا أو إحسان لا يعلم به أحد حتى من يستفيد منه ويجهد نفسه على أن تكون الأعمال الظاهرة الأخرى خالصة من الشوائب قدر إستطاعته فتلك خطوة أخرى على طريق الإستقامة.كما أن عليه أن لا يترك عملا صالحا من أجل الناس قال الله تعالى عن المؤمنين: ” يجاهدون في سَبيل اللّه ولا يخافونَ لومَة لائِم ” (
فهو لا يرى لغير الله إرادة أو إستطاعة لضرر إلاّ بإذنه وكلما إزداد المؤمن إيمانا كلما وضحت عنده تلك الحقيقة وفتح الله له بحيث يرى براهين جديدة تطمئن إليها نفسه. كتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه: سلام عليك ، أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” مَن أرضى الناسَ بِسَخَطِ اللّهِ وكَلَهُ اللّهُ إلى النّاسِ ، ومَن أسخَطَ النّاس بِرِضاءِ اللّهِ كَفاهُ اللّهُ مَؤنَةَ النّاسِ ” (9).ـ
ـ 3 ـ التقوى
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أتّقِ اللّه حيثُما كنتَ وأتبِع السيئةَ الحسَنَة تَمحُها وخالِقِ الناسَ بِخُلُق حَسَن ”
(رواه الترمذي وقال حديث حسن)(10 و 11)
حث الله تعالى في القرأن الكريم على التقوى في أيات كثيرة: ” ياأيّها الّذين أمنوا إتقوا اللّه حقّ تُقاتِه ولا تَموتُنّ إلاّ وأنتُم مسلمون ” (12) ، ” ياأيّها النّاسُ اتّقوا ربّكُم إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم ” (13) ، ” ياأيّها النبيّ إتّق اللّه ولاتُطِع الكافرين والمُنافقينَ إنّ اللّه كانَ عَليما حَكيما ” (14).ـ
وكلمة التقوى مشتقة من الوقاية ، فالتقوى هي إطاعة الله خشية عذابه ، وهي عمل بطاعة الله على نور من الله مخافة عقاب الله.
ويدعو الملائكةُ للمؤمنين كما يحكي لنا القرآن الكريم: ” وقِهِم السّيئات وَمَن تَقِ السّيئات فقد رَحِمتَهُ ” (15) ، وعلى المسلم أن يدعو الله على الدوام أن يقيه الوقوع في السيئات والآثام ، أليس هو الذي يدعو ربه في كل ركعة من ركعات صلاته: ” إهدِنا الصِراطَ المُستَقيم ” (16). وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو: ” اللّهُمّ إني أسألُكَ الهُدى والتُقى والعفاف والغنى ” (17).ـ
إن مكان التقوى هو القلب ، لكن الدليل على مايضمره القلب هو الأعمال الظاهرة على الجوارح ، فمن ادّعى التقوى وكانت أعماله تناقض قوله فقد كذب . ويختلف مقدار ما يفرض الله على المرء من تقوى بحسب إستطاعته ، قال الله تعالى: ” فاتّقوا اللّهَ ما استَطَعتُم ” (18). والسبيل إلى التقوى هو مراقبة النفس ومنعها عن إتباع أهوائها بما يناقض أوامر الله تعالى ولكي تنقاد إلى ما أمر به وعدم الغفلة سواء في حالة الإنقياد الى أمر الله أو إجتناب نواهيه ، قال تعالى: ” إنّ الّذينَ اتَّقوا إذا مَسَّهُم طائِف مِنَ الشيطانِ تَذَكَّروا فإذا هُم مُبصِرون ” (19).ـ
محبة الله ورسوله-4
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
” ثلاث من كُنّ فيهِ وَجَد بهنّ حَلاوَة الأيمان:أن يكونَ اللّه ورَسولُه أحبّ إليه مما سِواهُما ، وأن يُحِبّ المَرءَ لا يُحبّه إلاّ للّه ، وأن يَكرَه أن يعودَ في الكُفرِ بَعدَ أن أنقَذَهُ اللّهُ منه كَما يَكرَهُ أن يُقذَفَ في النّار ”
(متفق عليه)
محبة العبد لربه نور يقذفه الله في قلوب من يحب من عباده الصالحين حتى أن العبد ليجد حلاوة ذلك فلا يعبأ بما يلاقي من أذى في سبيل الله. إسمع قوله جل شأنه: ” ياأيّها الذين آمنوا مَن يَرتَدّ منكُم عَن دينِهِ فَسوفَ يأتي اللّه بِقوم يُحِبُّهُم ويُحِبّونَهُ أذِلّة على المُؤمنينَ أعِزَة على الكافرين ، يُجاهدونَ في سَبيلِ اللّه ولا يَخافونَ لومة لائِم ، ذلك فَضلُ اللّه يُؤتيهِ مَن يشاء واللّه واسِع عليم ” (20). وهكذا فإن محبة العبد لربه مقترنة بمحبة الله تعالى لعبده. ومحبة العبد لربه دليل على معرفته به ، قال الحسن البصري رضي الله عنه: من عرف ربه أحبه ، ومن عرف الدنيا زهد فيها ، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل ، فإذا تفكر حزن.
ولكن ما الدليل على صدق من يدعي محبة الله تعالى؟ إن جواب ذلك في كتاب الله: ” قُل إن كُنتُم تُحِبّون الله فاتّبِعوني يُحبِبكُم الله ويَغفر لَكُم ذنوبَكُم ، واللّه غَفور رَحيم ” (21) ، قال ذو النون المصري رضي الله عنه(22): من علامات المحب لله عز وجل متابعة حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه. ومن يصدق في محبته لله ولرسوله يرخص عنده كل غال في سبيل الله. إستمع قوله تعالى: ” قُل إن كانَ آباؤكُم وأبناؤكُم وإخوانُكُم وأزواجُكُم وعشيرَتُكُم وأموال اقتَرَفتُموها وَتِجارة تَخشونَ كسادَها ومَساكِنُ تَرضونَها أحَبّ إليكُم منَ اللّه ورسولِه وَجِهاد في سبيله فتَربّصوا حتى يأتي اللّه بأمرِه واللّهُ لا يَهدي القومَ الفاسِقينَ ” (23). وقد أحسن من قال:
تعصي الإله وأنت تزعم حبــه لعمري إن ذا في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعتــه إن المحـب لمــــن يحب مطـيـع
أتى أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال متى الساعة؟ قال له صلى الله عليه وآله وسلم: ” ماأعددتَ لها؟ ” قال ما أعددت لها كثير عمل ولكني أحِبّاللّه ورَسولِهِ ، قال: ” أنتَ معَ مَن أحبَبتَ ” (24) ، ففرح الصحابة بتلك البشرى فرحا شديدا لأن هذا الحديث بشرى عظيمة لمن أحب الله ورسوله ، فإن حب الله ورسوله لا يدانيه في الثواب عمل آخر. وعلى المؤمن أن ينظر إلى محبة الكفار لآلهتهم وأوليائهم مما سوى الله فيكون أشد حبا لله مما يحبون ، قال تعالى: ” ومِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دونِ اللّهِ أندادا يُحِبّونَهُم كَحُبّ اللّه والّذين آمنوا أشَدّ حبا للّه ” (25).ـ
ـ 5 ـ التوبة
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” لَلّهُ أشَدّ فَرَحا بِتوبَة عبدِهِ من أحَدِكُم سَقَطَ عَلى بَعيرِهِ ، وَقَد أضَلّهُ بأرض فلاة ” (متفق عليه)ـ
هكذا يحب الله توبة عبده ، لذا عليه أن يتوب بعد كل ذنب أومعصية ، وليس ذلك فحسب بل عليه أن يجدد التوبة مرة بعد أخرى ، ” إن اللّه يُحِبّ التوّابين ويُحِبُّ المُتَطَهّرين ” (26) ، فالتواب هو الذي يجدد التوبة مرة بعد أخرى وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” إنّي لأستَغفِرُ اللّهَ في اليومِ والليلَة أكثَرَ من سَبعينَ مَرّة ” (27). وإذا كان هَذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإستغفار والتوبة وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكم علينا أن نستغفر الله؟ ومع ذلك تجد بين المسلمين من يغفل عن ذلك نسيانا أو إهمالا أو إستهانة .
وللتوبة شروط ، فإن كانت متعلقة بأمر هو لله فقط فشروطها ثلاثة هي الإقلاع عن الذنب والتصميم على عدم العودة فيه والندم على فعله.أما إذا كانت متعلقة بحق آدمي فلها شرط رابع هو أن يسترضي صاحبها . ولا تتم التوبة إذا فُقد أي شرط من شروطها.
إن حقوق الله تعالى أعظم من أن يقوم بها العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن تحصى: ” وإن تَعُدّوا نعمةَ اللّهِ لا تُحصوها (28)ـ " ولكن على المؤمن أن يصبح تائبا ويمسي تائبا . فالتوبة والإستغفار دأب الصالحين فقد سبقهم إلى ذلك الأنبياء والمرسلون . فآدم وحواء عليهما السلام: ” قالا ربّنا ظَلمنا أنفسَنا وَإن لَم تَغفِر لنا وَتَرحمنا لَنَكونَنّ من الخاسرين ” (29) ، ويونس عليه السلام: ” فنادى في الظلُماتِ أن لا إلَه إلاّ أنتَ سُبحانَكَ إني كُنتُ من الظالمين ” (30) ، فالإنسان معرّض في حياته إلى النسيان والوقوع في الأخطاء ، فكل إبن آدم خطّاء ، وخير الخطائين التوابون . وكلما كان إستدراك الخطأ أسرع ، كلما كان ذلك أفضل . فإذا أعقب الذنب إستغفارا سريعا ، كان ذلك أدعى لقبول التوبة .
إن الأرض لتشهد لأي عمل يُرتكب عليها فهي تشمئز من ذنوب العباد ، وتطرب فرحا بالأعمال الصالحة فتشهد له بذلك يوم القيامة ، فعلى المرء أن يحرص على أن لا يترك أرضا عمل فيها بمعصية الله إلاّ بعد أن يتبع ذلك بطاعة لله فيها ، ” إن الحَسَناتِ يُذهِبنَ السيِئات ” (31) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” أتبِع السيئةَ الحَسَنةَ تَمحُها ” (32).ـ
وعلى المسلم أن يعلم إن من الذنوب ما تكون عاقبته للمرء خيرا من الطاعات ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنّ العبدَ ليُذنِب الذَنبَ فيدخلَ بهِ الجَنّة ” ، قيل يارسول الله ، كيف ذلك؟ قال: ” يكون نُصبَ عينيهِ ، تائِبا منه فارّا ، حتى يدخُلَ الجَنّةَ ” (33) ، فالمؤمن ليس ملَكا ولا نبيا معصوما من الخطايا لكنه يقظ يعمل جهده في أن لا يعصي ربه ، فإذا أذنب أو أخطأ تاب وأناب فيكون ممن يحبهم الله تعالى.
يحكى عن السري السقطي(34) رضي الله عنه أنه قال: منذ ثلاثين سنة أنا في الإستغفار من قولي الحمد لله مرة . قيل له وكيف ذلك؟ قال وقع ببغداد حريق ، فاستقبلني رجل فقال لي نجا حانوتك ، فقلت الحمد لله ، فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت حيث أردت لنفسي خيرا مما حصل للمسلمين.
ـ 6 ـ جهاد النفس
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: ركبت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال لي:
” يا غلام إني مُعَلِّمك كلمات ، إحفَظ اللّه يحفَظك ، إحفظِ اللّه تَجِدهُ تِجاهَكَ ، وإذا سألتَ فَلتسألِ اللّه ، وإذا إستَعَنتَ فاستَعِن باللّه ، واعلَم أن الأمّةَ لو إجتمَعوا على أن ينفعوك لَم ينفعوكَ إلا بشيء قد كتبهُ اللّهُ لكَ ، ولو إجتَمَعوا على أن يَضّروك لم يضُّروك إلا بشيء قد كَتَبَهُ اللّهُ عَليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُحُف”
(رواه أحمد و الترمذي)
حفظ العبد ربه هو إلتزامُ أوامره وإجتناب نواهيه ، وحفظ الله تعالى عبده هدايته ومضاعفة ثوابه وتجنيبه الآثام وتيسير أموره . قال تعالى: ” والّذينَ جاهدوا فينا لَنَهدينّهُم سُبُلَنا ” (35) وقال أيضا: ” ومَن يَتَّق اللّهَ يَجعَل لَهُ من أمرهِ يُسرا ” (36). وكلما إزداد المؤمن تقوى ، كلما إزداد عون الله له وتسديدهُ لخطاهُ ، فإذا أحَسَن وجد الثواب سريعا كإجابة الدعاء أو تيسير المزيد من الصالحات أو وقايته من السيئات ، قال تعالى:” فأما من أعطى وإتّقى وصَدّقَ بالحُسنى فسنُيَسِّرَهُ لليُسرى ”(37).ـ
أما إذا غفل المؤمن التقي فأخطأ ، فإن تسديد الله له يكون بتذكره لخطئه بشكل ما ، قال الله تعالى: ” إن الّذين إتّقوا إذا مَسَّهُم طائف من الشيطان تذَكّروا فإذا هُم مبصرون ” (38).ـ
فتمام اليقين أن لايرى المؤمن نافعا إلا الله ولا ضارا غيره ، ولا مجيبا يستحق أن يسأل إلاّ هو ، ومنه الهداية وحده لا شريك له في كل ذلك ، فإذا استسلم العبد لله كان البلاء عنده نعمة لرفع الدرجات وكسب المزيد من الحسنات وتكفير السيئات ، وصار الرخاء عنده إختبارا يخشى أن لا يستطيع أن يؤدي شكره. فالمؤمن قوي اليقين بالله يرى أن الله تعالى فعّال لما يريد وأنه وحده الذي يستحق السؤال ويقدر على الإجابة . وعليه أن يسدد ويقارب ما إستطاع ويعمل الخير ولا يقول إن كان الله كتبني شقيا فأنا شقي وان كان كتبني سعيدا فأنا سعيد ، فعليه أن يعلم أن التوفيق لعمل الخير هو بشرى من الله أنه من السعداء فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” إعمَلوا واتَّكِلوا ، وكُل مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ ، فَمَن خُلِقَ لِلنَعيمِ فييسرَهُ لِلنَعيمِ ، وَمَن خُلِقَ لِلجَحيم فييسرَهُ لِلجَحيمِ ” (39).ـ
ـ 7 ـ الرضا
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” إن أعظم الجزاء من عِظَم البلاء ، وأن اللّه تَعالى إذا أحَبّ قوما إبتلاهُم ، فَمَن رَضي فَلَهُ الرضا وَمَن سَخِطَ فَلَهُ السُخط ”
(رواه الترمذي وقال حديث حسن)
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وإجتنب ما حرم الله عليك تكن من أورع الناس ، وأدّ ما إفترض الله عليك تكن من أعبد الناس ، ولا تشكُ من هو أرحم بك (الله عزوجل) إلى من لا يرحمك (الناس)ـ ، وإستعن بالله تكن من أهل خاصته.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد فإن الخير كله في الرضا ، فإن إستطعت أن ترضى وإلاّ فاصبر. وقيل للامام الحسين رضي الله عنه إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى ، والسقم أحب إليّ من الصحة ، فقال: رحم الله تعالى أبا ذر ، أما أنا فأقول من إتّكل على حسن إختيار الله تعالى له لم يتمن غير ماإختاره الله عزوجل له. وقال أبو علي الدقاق(.4): وليس الرضا أن لاتحس بالبلاء ، إنما الرضا أن لا تعترض على الحكم والقضاء. ويكون العبد راضيا حق الرضا إذا سرّته المصيبة كما سرّته النعمة.
كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو: ” أللّهُمّ إنّي أسألُكَ الرضا بعد القضاء ” (41) ، وواضح أن الواجب على العبد أن يرضى بالقضاء الذي أمر الرضاء به ، إذ ليس كل ما هو بقضائه يجوز للعبد أو يجب عليه الرضا به ، كالمعاصي ومختلف أنواع محن المسلمين... ويعني ذلك أنه عند وقوع المعصية والمحنة يكون الواجب هو العمل على تغييرها لا الخنوع والرضا بها . ويمكن للعبد أن يستشعر رضاء الله عنه إذا كان هو راضيا عن ربه في حالات الضراء والسراء على السواء ، قال تعالى ” رضِيَ اللّهُ عَنهُم ورَضوا عَنهُ ” (42).ـ
إن عدم الرضا بمصائب الدنيا قد يصحبه الجزع. ومن جزع من مصائب الدنيا تحولت مصيبته في دينه ، لأن الجزع نفسه هو مصيبة في الدين ، فالمؤمن يرضى عن ربه وعن ما يقضي به ربه ، فالخير ما يختاره الله لعبده المؤمن لا ما يحبه هو لنفسه.