نظرا لحالة الاحتقان المزمن التى تعانى منها شوارع القاهرة، قررت انزل من مكتبى ساعة قبل ميعادى.. وقفت فى الشارع ومفيش تاكسى راضى يوقف لى، إلى أن جاء الفرج الإلهى..
- تاكسى.. المعادى يا أسطى.. هز سائق التاكسى رأسه، فى إشارة تعنى: اتفضلى اركبى.. بس أنا هاخد 15 جنيه..
- مفيش مشكلة.. "رغم إن المشوار مايستاهلش أكثر من 7 جنيهات"
أول ما خرجنا على الشارع الرئيسى، شاور واحد للتاكسى، وقاله: الدقى يا أسطى.. فمنحه سائق التاكسى نفس الإشارة، التى توحى بالموافقة.. لم اعترض لأن لدى متسع من الوقت، وبدأ سائق التاكسى رحلة التوهة فى شوارع الدقى، إلى أن وصّل الزبون، وبعدها اتجه إلى كوبرى أكتوبر.. فى منتصف الكوبرى، نظر إلى ذلك العجوز وقال لى: أنا مش رايح المعادى.. لم أفهم ما يعنيه تماما، فاستوضحت كلامه، فقال: أنا غيرت رأيى مش عايز أروح المعادى.. تمالكت أعصابى وقلت: يعنى حضرتك عايزنى أنزل؟! مفيش مشكلة.. بس أكيد مش هانزل فوق الكوبرى.. نزل سائق التاكسى منزل التحرير، فلملمت حقائقبى وهممت بالنزول، فقال: 3 جنيه يا آنسة..
- بتوع أيه؟!
- تمن المشوار من المهندسين للتحرير..
- بس أنا ماكنتش رايحة التحرير!
وفتحت الباب وخرجت من التاكسى قائلة: اسمع بقى.. إنت بقالك نص ساعة عمّال بتلف بيا.. فى الدقى، وماعترضتش.. قررت إنك مش عايز تروح المعادى، وكأنى كنت عاملاها لك مفاجأة، وماعترضتش.. نزلتنى فى التحرير، وماعترضتش.. كمان عايز تاخد فلوس؟! لأ.. أنا آسفة..
وسبته ومشيت.. وإذا بسائق التاكسى العجوز المتهالك.. يهب من مكانه، ليمسكنى من قفايا، قائلا: ما هو أنتى هتجيبى 3 جنيه، يعنى هتجيبى 3 جنيه.. ما هو أنا ماوصلتكيش لغاية هنا لله وللوطن!
وهنا بدأ الناس فى التدخل، لتخليصى من بين يديه، طالبين منى أن أعطيه ما يريد.. هى هتفرق معاكى أيه التلاتة جنيه يا أخت؟! ما تديهم له وتخلصى!
صممت على مبدأى وأنى لن أعطيه مالا يستحقه، وشرحت للناس ما فعله، فبدأوا فى فهم منطقى.. استشعر السائق انحياز الناس لرأيى، فقرر تهييج المتجمهرين: بصوا منظرها! دى تلاقيها بنت وزير ولا حاجة.. ومستخسرة فى الغلابة اللى زينا 3 جنيه!
ولأن الشعب المصر المطحون لديه حساسية مفرطة من أصحاب المناصب "اللى واكلينها والعة".. بدأ الناس فى أخذ صف سائق التاكسى مرة ثانية، فقلت: هو أنا لو بنت وزير يا بنى آدم، كنت اتمرمطت كدة فى الشوارع؟!
ولأنى مقتنعة بمبدأى، قررت الانسحاب الفورى من هذا العبث، وشاورت لتاكسى ونطيت فيه بسرعة، قبل ما يجيبنى العجوز من قفايا تانى،
وأغرب حاجة فى الموضوع، إن كان فيه عربية دورية واقفة فى الناحية التانية من الشارع، ولم يحرك هذا التجمهر شعرة واحدة فى رؤوس رجال الأمن!
المهم ركبت التاكسى التانى، وكان السائق يستمع إلى القرآن الكريم، فحمدت الله لأنى أريد ما يهدأ أعصابى فى هذه اللحظة، وبمجرد دخولى التاكسى، بدا لى أن سائق التاكسى يبحث باستماتة عن شىء ما، إلى أن وجد ضالته، فأخرج شريط القرآن ووضع بدلا منه شريط وعظ دينى لشخص منفعل جهورى الصوت يتحدث عن الحجاب والهداية، ونظرا لظروف يومى الصعبة، وظروف حياتى الأصعب، قلت لنفسى: "يا بت اسمعى بإصغاء.. يمكن يكون النهاردة يوم هدايتك، وفى ذهنى تدور حكايات الممثلات "التائبات" الاتى يصرحن بأن توبتهن بدأت عند الاستماع لمثل هذه الشرائط، وإليكم ما استمعت إليه:
"يا أخت لماذا أنتى غير محجبة.. ليه.. ليه؟! "بانفعال شديد".. بيخوفوكى من الحجاب.. "بانفعال أشد".. بيقولولك شكلك هيبقى وحش؟! طبعا بيهددوكى وبيقولولك أمك هيجيلها السكر بسببك.. هتطب ساكتة لو افتك محجبة.. مش ده برضه اللى هما بيقولوه لك، وبعدين تعالى لموضوع تانى.. الشغل.. أيه اللى يخليكى تتعرضى لمضايقات الناس فى الشغل.. أيه اللى يعرضك للإهانات دى؟! ده ربنا سبحانه وتعالى خلقك مكرمة.. أقعدى فى البيت.. صونى نفسك، وجوزك يصرف عليكى، ويخليكى معززة مكرمة.." عند هذا الحد لم أستطع الاستمرار فى الإصغاء، لأنى بمنتهى الباساطة غير متزوجة، وأمى فعليا عندها السكر، وبعدين هما مين اللى بيقولوا لى؟! قررت الاحتجاج، وقلت لسائق التاكسى: ممكن سؤال بعد إذنك.. إنت مشغل الشريط ده علشانك ولا علشانى؟!
- ........علامات بلاهة
- يعنى لو حضرتك مشغل الشريط ده علشان إنت تسمعه.. اتفضل اسمعه.. بس لو مشغله عشان أنا اسمعه.. شكرا مش عايزة..
- ليه.. هى الأخت مش مسلمة برضه؟!
- أيوة "الأخت" اللى هى حضرتى.. مسلمة..
ونظرت فى صمت إلى خارج التاكسى، معلنة رفضى الاستمرار فى المجادلة.. استجاب السائق لرغبتى، وبعد محاولات مضنية، فى كبح لجام لسانه، سألنى: طالما أنتى مسلمة.. ليه مش محجبة؟!
فاض بى الكيل وقلت: هو مش الحجاب ده برضه.. مسألة متعلقة بالدين؟! يا سيدى أنا دينى بينى وبين ربنا.. مش بينى وبين سواق تاكسى..
التزم الصمت حتى نهاية المشوار، وخرجت من التاكسى إلى ميعادى الذى جاوزت الوقت المحدد له بأكثر من ساعة ونصف، لأخوض معارك الحياة العملية، لأنى معنديش زوج يصونى ويقعدنى فى البيت، ويحجبنى ويصرف عليا..
نداء إلى الجهات الحكومية المعنية: "برجاء دراسة مشروع تعميم استخدام الدراجة، كوسيلة انتقال عامة، لأنها لن تقضى فقط على أزمة المرور، ولكنها سترحمنا أيضا من سائقى التاكسى"